فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، عن إبراهيم النخعي قال في مصحف عبد الله: {حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة مثله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: الاستئناس: الاستئذان.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي، والطبراني، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، عن أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} هذا التسليم عرفناه فما الاستئناس؟ قال: «يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت» قال ابن كثير: هذا حديث غريب.
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الاستئناس أن يدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت الذين يسلم عليهم» وأخرج ابن سعد، وأحمد، والبخاري في الأدب، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في الشعب من طريق كلدة: أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ، وضغابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه، ولم أسلم، ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع، فقل: السلام عليكم أأدخل؟» قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديثه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد والبخاري في الأدب، وأبو داود، والبيهقي في السنن من طريق ربعيّ، قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم أأدخل؟» وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعًا، ولكنه قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلميه».
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنت جالسًا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعًا، فقلنا له: ما أفزعك قال: أمرني عمر أن آتيه، فأتيته، فاستأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: قد جئت، فاستأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له فليرجع» قال: لتأتيني على هذا بالبينة، فقالوا: لا يقوم إلاّ أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه ليشهد له، فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد.
وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه مدري يحكّ بها رأسه، قال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» وفي لفظ: «إنما جعل الإذن من أجل البصر» وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه، عن أنس قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية، فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي ارجع، فأرجع، وأنا مغتبط لقوله: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ}.
وأخرج البخاري في الأَدب، وأبو داود في الناسخ والمنسوخ، وابن جرير عن ابن عباس قال: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} فنسخ، واستثنى من ذلك، فقال {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أي: تستعلموا وتستكشفوا الحال. هل يراد دخولكم أم لا؟ من الاستئناس وهو الاستعلام. من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا. أو المعنى: حتى يؤذن لكم فتستأنسوا. من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش. لما أن المستأذن مستوحش من خفاء الحال عليه، فيكون عبر بالشيء عما هو لازم له، مجازًا أو استعارة. وجوّز أن يكون من الإنس والمعنى: حتى تعلموا هل فيها إنسان؟ {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي: ليؤمنهم عما يوحشهم: {ذَلِكُمْ} أي: الاستئذان والتسليم: {خَيْرٌ لَكُمْ} أي: من الدخول بغتة: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: فتتعظوا وتعملوا بموجبه.
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي: من الآذنين: {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي: واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحدًا من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها.
قال الزمخشري: وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك. فلابد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب. انتهى.
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي: إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا، كالنساء والولدان، فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان، لأن هذا مما يجلب الكراهة في قلوب الناس، ولذا قال تعالى: {هُوَ} أي: الرجوع: {أَزْكَى لَكُمْ} أي: أطهر مما لا يخلوا عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب، من دنس الدناءة. وأنمى لمحبتكم.
قال الزمخشري: وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس.
لطيفة:
قال ابن كثير: قال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: ارجع. فأرجع وأنا مغتبط. انتهى {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي: فيجزيكم على نيتكم الحسنة، في الزيارة، أو المكر والخيانة بأهل المزور أو ماله.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية وجوب الاستئذان عند دخول بيت الغير، ووجوب الرجوع إذا لم يؤذن له، وتحريم الدخول إذا لم يكن فيها أحد. ويستفاد من هذا تحريم دخول ملك الغير، والكَوْن فيه، وشغله بغير إذن صاحبه فيدخل تحته من المسائل والفروع ما لا يحصى. واستدل بالآية الأكثر على الجمع بين الاستئذان والسلام. والأقلُّ على تقديم الاستئذان على السلام بتقديمه في الآية. وأجاب الأكثرون، بأن الواو لا تفيد ترتيبًا، واستدل بها من قال: له الزيادة في الاستئذان على ثلاث، حتى يؤذن له أو يصرح بالمنع، وفهم من الآية أن الرجل لا يستأذن عند دخول بيته على امرأته. انتهى.
وقال ابن كثير: ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرًا اطلع عليك بغير إذن، فحذقته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» وأخرج الجماعة عن جابر قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي. فدققت الباب، فقال: «من ذا» فقلت: أنا قال: «أنا، أنا» كأنه كرهه. وإنما كرهه، لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها، حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها. وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل به المقصود الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية. وعن ابن مسعود قال: عليكم الإذن على أمهاتكم. وعن طاوس قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم. وكان يشدد النكير في ذلك. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا. قال ابن كثير: وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله، ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقًا.
ثم بيّن تعالى ما رخص فيه عدم الاستئذان، بقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا} أي: بغير استئذان: {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي: غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة، بل ليتمتع بها كائنًا من كان، كالخانات والحمامات وبيوت الضيافات: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي: منفعة وحاجة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد لمن يدخل مدخلًا من هذه المداخل، لفسادٍ أو اطلاع على عورات. أفاده أبو السعود. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}.
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور.
فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد.
وقد كان الاستئذان معروفًا في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل.
وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجًا للمزور أو مثقلًا عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها.
وشرع الاستئذان لمن يزور أحدًا في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب.
ومعنى {تستأنسوا} تطلبوا الأنس بكم، أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية.
وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذنًا من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل.
قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان.
يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل.
ووقع لابن القاسم في جامع العتيبة أن الاستئناس التسليم.
قال ابن العربي: وهو بعيد.
وقلت: أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف {وتسلموا} عطف تفسير.
وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان.
وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلًا على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية.
وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيهًا على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما.
وعن ابن سيرين: أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أأدخل؟ فأمر النبي رجلًا عنده أو أَمَةً اسمها روضة فقال: «إنه لا يحسن أن يستأذن فليقُل: السلام عليكم أأدخل فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل فقال: ادْخلْ»، وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال: «أألج فأذن له ابن عمر، فلما دخل قال له ابن عمر: ما لك واستئذان العرب؟ يريد أهل الجاهلية إذا استأذنت فقل: السلام عليكم فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل، فإن أذن لك فادخل».
وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان.